Tuesday, February 27, 2007

حتى لا تحرق السينمات


ما المشكلة فى إنتاج فيلما عن الأستاذ " حسن البنا " ؟... إن الدور الذى لعبه الرجل فى تاريخ مصر السياسي و الإجتماعى دورا جبارا , ليس فى تاريخنا كثير من الزعماء الذين كان لهم مثل هذا الدور , بل ربما تجاوز دوره الحدود المحلية و أثر تأثيرا خطيرا على بقيه العالم الإسلامى , فجماعة الاخوان المسلمين التى كان إنطلاقها ثمرة كفاح الأستاذ البنا هى أكبر جماعة دينية فى القرن العشرين , و هى على المستوى المحلي قد صارت المالكة لأوراق اللعبة السياسية فى مصراليوم, و القادرة على استحواذ مراكز القرار الواحد تلو الأخر فى الأيام القادمة
ثم أنه لا يوجد زعيم توافرت فى سيرته العناصر الدرامية مثلما توافرت فى سيرة الشيخ الراحل , فقد كانت حياته خضم من التحديات التى لا تنقطع و لم تنقطع إلى يوم مقتله .. ذلك الحادث الرهيب الذى سيظل اكبر لغزا فى حياته و أشهر الجرائم التى عرفها الشارع السياسىالمصري
صانعوه الفيلم يقولون أنهم يريدون أن ينتجوا عملا ضخما عن حياته , و من وجهة نظر تتعارض أو تغاير وجهة النظر التى يتبناها أفراد الجماعة , فالجماعة تصور "حسن البنا" تصويرا أسطوريا , و تحيط شخصيته بهالات التقديس حتى كادت ان ترفعه عن مقام البشر أو تجعله أحد " أولياء الله الصالحين" على حد تعبير الأستاذ سيف الإسلام نجل الشيخ الشهيد
و الجماعة ترى أن "حسن البنا" رجل غير عادي , أو رجل حسناته بلغت عنان السماء و أخطاءه هفوات لا يصح ان تذكر و هى لا ترتاح فى أن تترك شيخها عرضة للأقلام تعبث به كما تشاء و تسىء الى الصورة المثاليه التى تعمل الجماعة على تأكيها و تجميلها منذ خمسين عاما و يزيد
و القانون لا يمنح أسرة الشيخ أى حق فى الاعتراض على الفيلم , فقد مضي على رحيل حسن البنا أكثر من خمسين عاما و صار فى ذمة التاريخ ,ملكا لإبناء وطنه و ليس ملكا لأسرته .. ثم أن الفيلم فى النهاية لا يحتكر حسن البنا و إنما فقط يصور رؤية مبدعوه لتلك الشخصية التاريخية المميزة و إستنادا على مصادر أخرى غير تلك التى يعتمد عليها الإخوان المسلمين فى التآريخ لزعيمهم .. و شخصية "حسن البنا " من الشخصيات التى ثار حولها الجدال و لايزال ثائرا , و لا يصح أن يدعي أحدا انه يملك الحق المطلق و الكلمة الاخيرة و يحسم هذا الجدال بين يوم و ليلة .. و "حسن البنا " الذي يراه الإخوان و يكتبون عنه فى أدبياتهم ليس هو "حسن البنا" الوحيد .. لأن هناك من يراه من زاوية اخرى و فى إطار مختلف , و الشعب كله ليس من الإخوان المسلمين !
و إذا ارادت الجماعة ان تقدم هى الأخرى فيلما عن حياة الشيخ الشهيد , و مادام السيناريو جاهزا منذ سنوات فعلى بركة الله ! .. مع العلم أن ذلك لا يمنع الأخريين من التعبير عن رؤيتهم من خلال فيلما آخر
و فى رأيى أن هذا الفيلم للأسف الشديد لن يرى النور , فالمخاطرة كبيرة جدا ..
و الإخوان لن يكتفوا بأن يضعوا صانعوا الفيلم فى نار جهنم و لكنهم قد يحرقون السينمات أيضا!!

Monday, February 26, 2007

ضرورة الفلسـفة

" إن علينا أن نتفلسف إن كان ثمة ما يدعو إلى التفلسف فإذا لم تكن هناك حاجة إلى التفلسف وجب علينا أن
نتفلسف أيضا بنثبت أن التفلسف لا ضرورة له " ... ( المعلم الأول أرسطو384-322 ق.م)
***
" إن قصد الفلاسفة إنما هو معرفة الحق, و لو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا فى مدحهم " ( أبو الوليد إبن رشد1126-1198م) ..
***
" ليست هناك علامة أقوى دلالة على حقارة عقل من العقول و غبائه الأصيل من احتقاره الفلسفة , مهما كان من قوة هذا العقل فى ميادين النشاط العملى , و لقد يكون شخص ما قادرا أعظم القدرة فى الرياضيات أو فى الهندسة أو فى الأساليب البرلمانية أو فى السبق فى إخراج الكتب و لكن هذا الشخص إذا تفكر فى هذا الكون مدى حياته و لم يسأل نفسه : ماذا يعنى ذلك كله, فإنه أحدأولئك الذين وضعهم "كلفن"حين قسم الناس فى فصيلة من كتب عليهم الشقاء الأبدى!" ( جورج برنناندشو 1856-1950)
***
مثلما أننا فى تراثنا الشعبى نرفع عن كاهلنا كل مسؤولية حين نقول أن الباب الذى يأتى منه الريح يجب ان نسده و نستريح و أن الشر علينا أن نبعد عنه ثم نغنى له , فإننا كذلك لا نحمل عقولنا أدنى تكليف , و نستعيذ فى الصباح و المساء من سوء حال من يشغل البال مؤمنين بالقول القائل " الى يفكر يتعكر "!
و عندنا عبارة يحفظها فينا الكبير و الصغير و الجاهل و العالم , و لا نشبع من ترديدها فى الحق و الباطل و فى الجد و الهزل , إنها عبارة "بلاش فلسفة"! ..
و أمة مثلنا , تردى بها الحال لتقبع فى الذيل , سليبة الحضارة,خافضة رأسها , مادة أيديها للأمم الراقية من حولها "إعطونى خبزا , إعطونى علما , إعطونى خبرة , إعطونى فنا , إعطونى .. إعطونى ... " دون أن تعطى هى شيئا .. فلم يعد لديها شيئا . أقول أن أمة كهذه لابد و أن يكون إعمال العقل و تدبير الفكر فيها ترفا أو لهوا .. لابد و أن تنبذ عقلائها فهم فى تصورها دعاة هرج و مرج , و قلق و أرق , يريدون أن ينزلوا النوم عن سلطانه , يدخلوا النور و يشعلوا النار فى المضاجع الأمنة المطمئنة !
صحيح أن لهذه الأمة نفسها ماض عريق و تراث زاخر و حضارة مطمورة , عاشت بها و على هداها و فوق خطاها أمم عديدة .. صحيح أننا خضنا فى الفكر و العلم بحورا , و بنينا به و له صروحا و قصورا , و ملأنا الأرض فى أزمنة الغروب نورا .. و لكننا اليوم قرن أخرون , قنعنا أنه ( ليس فى الإمكان خير مما كان) و صار ماضينا نصوصا تحفظها الكتب , نفتحها و نتلو عليها صلوات الحسرة , و نرقى أنفسنا من عين الغرب ذلك(المتآمر الاذلى) الذى يتربصنا !
و إذا كنا نريد اليوم أن نفتح صفحة أخرى , أن ننهض بعد طول رقاد .. فالسبيل لذلك لن يبدأ إلا بأن نغير موقفنا من التفكير و أدواته و أن نعيد للعقل فى حياتنا مكانته المسلوبة و التى احترمها الإسلام العظيم و كفلها قرآن السماء , فالتفكير كما يقول الأستاذ العقاد" فريضة إسلامية". و التفكير ملكة لا يستقيم دين المؤمن إلا بها و لا يصح أن يعجبنا إيمان رجل قبل أن نسأل عن عقله .
إننا فى حاجة لمراجعة طرائقنا فى التفكير ..و كيف أننا أهملنا تربية العقل الناقد و أعتمدنا على النقل الأعمى و ثقافة القمع بدلا من الحوار البناء و المناقشة و استنفذنا الطاقات فى أساليب التلقين البائته التى لا تقدم و لا تؤخر فكانت النتيجة أن نصاب بعقم شبه كامل فى كل الأنشطة الإبداعية و نتوقف عن إنتاج حضارة تخصنا بينما هبت الأمم كلها من حولنا تتصارع على النهوض و تتسابق فى الرقي .
و الفلسفة , بما تتيحه من مناخ للتفكير الحر و ثراء فى الطرائق و مناهج البحث هى خير مربى لهذا العقل الناقد الحصيف , القادر على إستيعاب مشاكل المجتمع من حوله إستيعابا إيجابيا يؤدى به فى النهاية إلى إنتاج طاقة إبداعية حية تضيف و تخلق الجديد فى مختلف الأنشطة . والأصوات التى تناصب الفكر الفلسفى العداء و تحجر على العقل الإنسانى الذى هو أغلى نعم الله إلينا , و تقف أمام كل محاولة لمراجعة الأفكار الراسخة أو فحصها فى ضوء معارفنا الجديدة لا يمكن أن تصلح للبقاء فى عالمنا اليوم .. هذا العالم الذى يأتى كل لحظة بجديد . لا يمكن أن تصمد باقيه بعدما إتضح عجزها و تهافتها , فنحن سرنا ورائها مئات السنين و قلنا مع القائلين " من تمنطق فقد تزندق " و أغلقنا النوافذ و الأبواب و أرخنا الغشاوة فوق الأبصار فما كان بنا إلا أن نهوى إلى الحضيض و نشرف على الهلاك ..
إن الفكر الفلسفى لا تنضب منابعه و لا تجف روافده و هو قادر دائما على العطاء , باق ما بقى الإنسان وما بقى فى الإنسان عقل يفكر .و هو ليس ترف عقلى بل هو ضرورة للأمم المتخلفة قبل الأمم المتقدمة , بل يمكننا القول و -لا نبالغ - إن الامم المتخلفة , متخلفة لأنها تحتقر الفكر الحر..تحتقر الفلسفة و الأمم المتقدمة متقدمة لأنها تعطى للفلسفة مكانتها فكلما قل نصيب المرء من الذكاء كلما بدا له الوجود أقل غموضا , و كلما بدا التفكير الناقد الذى تمثله الفلسفة خير تمثيل لا حاجة له و لا ضرورة .

رسالة إلى شاعر ناشىء ..وينير ماريا ريلكه


لقد كان لك كثير من الأحزان العظيمة التي انقضت وها أنت تقول إن هذا الطابع العابر، هو ما صعب عليك احتماله لقسوته. وأنا أدعوك الى أن تفكر جيدا: ألم تخترقك هذه الأحزان في الصميم؟ ألم تتغير فيك أشياء كثيرة؟ بل ألم تتغير أنت ذاتك، في نقطة ما أو موضع ما من كيانك، فيما كنت حزينا؟ ان الأحزان التي نحملها فتطغى على أصواتنا ونحن بين الناس، هي وحدها الأحزان الخطرة والسيئة. انها تشبه تلك الأمراض التي تعالج علاجا سطحيا وسخيفا فتتراجع قليلا ليكون ظهورها- بعد ذلك - مرعبا. انها تتراكم في الداخل، وهي من الحياة؟ ولكنها حياة لم تحيا , حياة يمكن أن تقتلنا. لو كان بامكاننا أن نرى أبعد قليلا مما تتيحه معرفتنا، وخلف الأبواب الأمامية لحدسنا، لكان بوسعنا أن نحتمل أحزاننا بثقة أكبر من تلك التي نحتمل بها أفراحنا. ولعل مرد ذلك، الى أن أحزاننا تمثل اللحظات التي ينفذ- خلالها- الى داخلنا شيء جديد ومجهول. وفي تلك اللحظة تصمت أحاسيسنا، في تردد خجول، ويتراجع فينا كل شيء، فيخيم سكون ويستوي ذاك الجديد الذي لا نعرفه، صامتا، هناك في الوسط. وإني أعتقد أن جل أحزاننا هي لحظات توتر تشعرنا بالعجز عن الحركة، فرط ما بنا من صمم تجاه حياة احساساتنا الموسومة بالغرابة. ومعنى ذلك أننا وحيدون مع ذاك الغريب الذي نفذ الى داخلنا ، ومعناه أيضا ، أن كل ما هو مألوف ومعتاد لدينا، قد أخذ منا، وأننا نجد أنفسنا وسط مرحلة تحول، حيث لا نقدر على الوقوف دون حراك. وسأفسر لك الآن لماذا يكون الحزن عابرا؟ ان ذاك الجديد الذي انضاف الينا فصار فينا، قد نفذ الى قلبنا، الى أكثر مخابئه حميمية حيث ينتفي ليمتزج بالدم فنكف عن ادراك ما هو، ويمكن أن يخيل الينا أن شيئا لم يحدث، والحال أننا تغيرنا مثلما يتغير بيت بدخول ضيف. لا نستطيع أن نقول من الذي دخل، وقد لا نعرف ذلك أبدا، ولكن مؤشرات عديدة تجعلنا نفكر في أن المستقبل هو الذي اقتحم دواخلنا بهذه الطريقة كي يتحول فينا، زمنا طويلا قبل حلوله الفعلي. لهذا السبب يكون من المهم أن يبقى الانسان وحيدا ومنتبها، عندما يكون حزينا: لأن اللحظة التي يبدو أن لا شيء يأتي خلالها او يتحرك، هي اللحظة التي يدخل مستقبلنا- خلالها- فينا. وهذه لحظة أقرب الى الحياة من اللحظة الأخرى الصاخبة حيث يأتينا المستقبل كما من خارج. وبقدر ما نكون هادئين وصابرين ومنفتحين - في حزننا- بقدر ما ينفذ فينا هذا الجديد عميقا دونما معكر. وبقدر امتلاكنا له، بقدر ما يكون قدرنا: قدرنا الذي عندما يطلع يوما ما من ذاك "الجديد"، ليقترن ببقية الأقدار، نشعر في أعماقنا كم نحن أهل وأقارب. انه من الضروري الا يداهمنا شيء غريب، عدا ما هو لنا منذ زمن بعيد: وفي هذا الاتجاه بالذات يتشكل تطورنا تدريجيا، في هذا السياق وجب أن نعيد التفكير في عدة مفاهيم متعلقة "بالحركة" . ولقد تسني لنا أن ندرك تدريجيا، أن ما نسميه قدرا، يخرج من الانسان ولا يداهمه من الخارج، ولم يدرك عدد كبير من الناس ذلك: لأنهم لم يمتلئوا بقدرهم - فيما هو يحيا داخلهم - ولم يحولوه فيهم، لقد بدا لهم "غريبا"، الى حد جعلهم يجزمون - في رعبهم المربك - انه لم يحل فيهم الا للتو: وهم يقسمون على أنهم لم يجدوا في ذواتهم شيئا شبيها به، قبل ذلك. و مثلما أخطأنا طويلا بخصوص حركة الشمس، فإننا نتمادى في أوهامنا حول حلول (هذا الغريب ). ان المستقبل ثابت، يا عزيزي وأما نحن فاننا نسبح في الفضاء اللانهائي ... فكيف لا يشكل الأمر علينا؟ وحتى نعود الى موضوع العزلة، فانه بات جليا- أكثر فأكثر- انها ليست شيئا يمكن أخذه او تركه نحن متوحدون، ويمكن أن نوهم أنفسنا بأن الأمر ليس كذلك، بيد انه يحسن أن نفهم اننا متوحدون، ويحسن بكل بساطة أن ننطلق من هنا، وحينها سيعترينا الدوار بالتأكيد، لان كل النقاط التي ألفت عيوننا ان تقع عليها، ستسحب منا؟ فينتفي كل قريب، ويتناص كل بعيد في بعده. ان كل من ينقل - فجأة ودون سابق انذار- من غرفته قمة جبل شاهق، يعتريه نفس الاحساس بالدوار: انه يشارف على الامحاء بفعل حالة من الضبابية لا مثيل لها ويفعل كونه تحت رحمة شيء لا مسمى. انه يخيل اليه انه سقط أو ألقي به في الفضاء فتحطم وتناثر ألف قطعة: فاي الأكاذيب، لا يبتدعها عقله، في هذه الحالة، حتى يستعيد حواسه؟! وبهذه الطريقة تتغير- بالنسبة الى من يغدو متوحدا- كل المسافات والمقاسات، وتحدث هذه التغيرات فجأة. وتماما مثل الرجل الذي فوق قمة الجبل، فانه يشكل تخيلات غير معتادة و إحساسات غريبة، يبدو وكأنها تنمو فوق كل ما هو محتمل. غير انه من الضروري أن نحيا هذا أيضا. علينا ان نحتمل وجودنا أكثر ما يمكن وحتى ما كان شديد الغرابة، ينبغي ان يكون ممكنا في هذا الوجود. وهنا تكمن الشجاعة الوحيدة التي نحن مطالبون بها: ان نكون شجعانا أمام ما هو أغرب وأبعث على الدهشة، وأقل قابلية للايضاح. واذا كان تخاذل الناس - بهذا الصدد- قد ألحق ضررا بالغا بالحياة؟ فان التجارب المعيشة التي نسميها "انبثاقات"، وكل ما نسميه "عالم الأرواح"، والموت: كل ما هو شديد الالتصاق بنا.. وجد نفسه بفعل المقاومة اليومية خارج الحياة، الى حد أن الحواس التي كانت تسمح بالامساك به، اعترافا الضمور. دون أن نتحدث عن الله، بيد أن الخوف مما هو غامض لم يفقر وجود الفرد فحسب: وانما ضيق بفعل تأثيره العلاقات بين البشر، فاجتثت من مجرى نهر الامكانات اللانهائية، لترفع فوق ضفة نهر جرداء، لا شيء يدركها. لأن الكسل ليس وحده القادر على جعل العلاقات البشرية تتكرر رتيبة، لا تتجدد، وانما هنالك ايضا الخجل أمام كل تجربة جديدة وغير منظورة، نشعر اننا دون مستواها. وحده، من هو مستعد لكل شيء ولا يرفض أمرا، حتى ما كان غامضا: سيعيش العلاقة مع شخص آخر مثل شيء حي يستنفد تجربته الخاصة. واذا مثلنا هذا الوجود بغرفة كبيرة نسبيا، فان معظم الناس لا يتعلمون سوى معرفة زاوية من الغرفة أو مكان ما من النافذة، او جزء (صغير من الأرضية )، يمشون عليه ويجيئون، وهكذا، فهم يجدون نوعا من الأمان، ومع ذلك، فكم هو انساني هذا اللاأمان المحفوف بالمخاطر، والذي يدفع السجناء- في حكايات ادغار الان بو الى تلبس أشكال زنزاناتهم المعتمة والمرعبة، حتى لا يكونوا غرباء عن مخاوف اقامتهم.
ولكننا لسنا سجناء، وليست هناك أية فخاخ حولنا: لا شيء هنا ينبغي أن يخيفنا او يعذبنا، فنحن في الحياة مثلنا في أكثر العناصر ملاءمة لوجودنا، فضلا عن أن آلاف السنين من التكيف ، جعلتنا نشبه هذه الحياة، الى حد أننا- اذا بقينا ساكنين - بالكاد نميز أنفسنا عن كل ما يحيط بنا بفضل نوع من التماهي السعيد. ولسنا محقين في أن نكون حذرين من عالمنا، لأنه لا يناصبنا العداء واذا كانت فيه مخاوف، فهي مخاوفنا نحن، أو فيه مغاور، فتلك المغاور لنا. واذا كانت في هذه المغاور مخاوف، فعلينا ان نحاول حبها. ويكفي أن ننظم حياتنا وفق المبدأ الذي يدعونا الى التمسك بالأصعب حتى يستحيل ما يبدو لنا اليوم شديد الغرابة، أكثر الأمور ألفة وأوفاها. كيف لنا أن ننسى الأساطير القديمة التي كانت في بدء كل الشعوب: أساطير التنينات التي تنقلب، في اللحظة القسوى أميرات؟ فربما تكون كل التنينات في حياتنا أميرات جميلات ومقدامات، تنتظر رؤيتنا يوما ما ربما يكون كل مرعب يحتاج مساعدة، ويريد منا أن نساعده. عزيزي السيد كايبس، لا ينبغي أن تخاف، عندما ينهض أمامك حزن أكبر من كل الأحزان التي صادفتك؟ أو عندما تمر كآبة على يديك وعلى جميع حركاتك، مثل النور وظل السحب، ينبغي ان تشعر ان شيئا ما يحدث لك، وأن الحياة تحضنك ، ولم تنسك ولن تتخلى عنك، لماذا تريد أن تطرد من حياتك كل نوع من الاضطراب، أو الوجع والاكتئاب، وأنت لا تعلم شيئا عما تعمله هذه الحالات فيك؟ لماذا تجلد ذاتك بالتساؤل عن مصدر كل ذلك، وعن ماله؟ وأنت تعلم أنك في مرحلة تحولات، وانه لن تكون لك رغبة أكبر من رغبتك في أن تتحول. واذا كان ما يحدث لك مشوبا بالمرض، فاعلم اذن، أن المرض وسيلة يتمكن بها الجسم من التخلص من كل ما هو غريب عنه؟ ومن ثمة، فليس علينا الا أن نساعده على ان يكون مريضا كليا وعلى أن يعبر عن نفسا، لأنه بذلك يستطيع أن يتطور. عزيزي السيد كابيس، كثير من الأشياء تحدث الآن في ذاتك، وينبغي أن تكون صابرا مثل مريض، وواثقا مثل من يتماثل للشفاء: لأنك قد تكون هذا وذاك معا، وفضلا عن ذلك فأنت - أيضا- الطبيب الذي ينبغي أن يسهر على نفسه. وفي كل مرض هنالك أيام لا يستطيع الطبيب خلالها الا ان ينتظر، وهذا ما ينبغي أن تفعله اليوم باعتبارك طبيب نفسك. لا تراقب نفسك كثيرا، ولا تخرج باستنتاجات متسرعة مما يحدث لك: دعة - فقط - يحدث. والا فانك ستنقاد ببساطة الى القاء نظرات لوم ( أخلاقية ) على ماضيك، الذي يساهم بالتأكيد، بكل ما يهب الآن للقائك، في حين أن كل ما يعتمل فيك الآن من تيه ذاك الولد الذي قد كنت، ومن أمانيه وتطلعا ته، ليس هو ما تتذكره، وتدينه. ان الوضعية الاستثنائية لطفولة متوحدة ومحرومة، وضعية في غاية الصعوبة والتعقيد، فهي منذورة الى تأثيرات مختلفة في نفس الوقت. يجب ان نكون حذرين ازاء الاسماء، فكثيرا ما تتحطم حياة على اسم الجريمة وليس على الفعل ذاته. هذا الفعل الذي هو بدون اسم، والذي قد كان ضرورة دقيقة من ضرورات الحياة، وكان يمكن أن يدمج فيها دون صعوبة. واذا بدت لك القوى المبذولة كبيرة، فذلك لانك تمنح الانتصار أكثر من قيمته: فهذا الانتصار ليس الأمر "العظيم" الذي تعتقد أنك أنجزته، حتى وان كنت محقا فيما تشعر به، العظيم هو أنه كان هنالك شيء أمكن لك أن تضعه مكان هذه الحماقة، شيء حقيقي وواقعي. وبدون ذلك فان انتصارك ما كان يمكن أن يكون الا ردة فعل أخلاقية عديمة القيمة؟ في حين أنها غدت بهذه الطريقة مرحلة من مراحل حياتك. حياتك - عزيزي السيد كايبس - التي أفكر فيها حاملا لك كثيرا من الأماني الطيبة. هل تذكر كيف كانت حياتك تتطلع الى الخروج من الطفولة والتوجه نحو "الكبار"؟ اني اراها الآن وهي تتطلع - منفصلة عن الكبار- الى الأعظم، لذلك فهي لا تكف عن أن تكون صعبة، ولكنها لذلك أيضا، لن تكف عن النمو. واذا كان لي أن أقول لك شيئا آخر، فهو ما يلي: لا تعتقد أن من يحاول مواساتك يعيش دون عناء، بين الكلمات السهلة والهادئة التي تمنحك الراحة أحيانا. ان في حياته الكثير من العناء والحزن.. حياته التي تظل بعيدة، دونك. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان له أن يجد كلماته أبدا.

المخلص: وينير ماريا ريلكه
فوروبوج، السويد في 4 نوفمبر 1904

في أدب الخيال العلمي

جرت العادة أن تكون روايات الخيال العلمى واحدة من أقرب أنواع الفن الروائى الى قلوب الناس عامة , على مختلف أعمارهم و ثقافاتهم , ربما لان عنصر التشويق يبلغ ذروة توهجه فى هذا الدرب من القصص فاتحا أمام الخيال أفاقا رحبة للجموح و الإنطلاق , مشبعا غريزة الإنسان فى تجاوز عالمه الضيق المحدود و التحليق فى سماوات اللامتناهى .و رواية الخيال العلمى ليست خيالا محضا , فمادتها الرئيسية هى الحقائق التى تمدنا بها العلوم الطبيعية , و يقوم الأديب بعرضها فى قالب روائى مبسط ثم ينطلق منها مستنتجا افتراضات شتى ليس لها على الأرجح قدرا من الصحة و لا تتبع منهجا علميا سليما و لكنها فى النهاية مبنية على الحقيقة العلمية , مرهونة بالنقاط الأساسية التى ترسمها.و اكثر ما يشغل كاتب رواية الخيال العلمى الناجح أن يجعل إفتراضاته ملائمة للحقيقة العلمية المبنية عليها , قادرة على التماسك أمام منطق البديهة و النظر العقلى الأولى للقارىء حتى لو تهافتت أمام المنهج العلمى الدقيق , و الأهم من ذلك أن تكون مادته العلمية المنتقية مثيرة إلى حد كافى , سهلة الفهم بعيدة عن التعقيد بقدر الإمكان و عليه فى سبيل ذلك أن ينقيها من التفاصيل و التفريعات التى لا تخدم قصته و لا تتماشى مع خيط الإثارة الذى يقتفيه.و الأديب الذى يلجأ إلى الخيال بشكل عام و يفارق الواقع و المنطق لابد أن يجاهد فى جعل مفارقته مستساغة و يحرص على ألا يقع فى فخ المبالغة أو التكلف بحيث يعوض الخلل المنطقى بحبكة الصياغة الفنية و تماسك السرد القصصى و لكن كاتب الخيال العلمى عادتا لا يسهب فى الخيال إلى حد مفارقة الواقع وخلق عالما مختلفا تمام الاختلاف عن العالم المادى بل يمكننا القول أنه يخلق عالم "موازيا " للحقيقة المادية تحكمه نفس قوانينها و يسير متفقا مع منطقها و لكنه فقط يتوسع فى تطبيقات هذه القوانين .يمكننا القول أن كاتب الخيال العلمى يرمى بنظريات العلم كأساسا لبناءه القصصى و قد يتطاول بناءه و يعلو مخترقا سموات الخيال و لكنه يظل دائما فوق أرض الواقع يستمد منها صلابته و تنتصب قامته بمقتضى قوة أساسه , انه يرى بعين العلم و يضيف إليها حدسه العقلى كى يمكنه من توسيع أطر النظريات العلمية و تجاوزها إلى إفتراضات أكثر مرونة , و يمكننا أن نصف الخيال العلمى بانه الخيال " الممكن " تميزا له عن الخيال الصرف , فقاعدة الحقائق العلمية التى يقف عليها تنفى عنه صفة الاستحالة و تجعله دائما فى عالم الإمكان .و هناك الكثير من روايات الخيال العلمى التى نجحت فى التنبؤ بوقائع حدثت بحذافيرها بعد مرور عشرات بل مئات من السنوات على تأليفها و لعل أشهر الامثلة على ذلك رواية " عشرون ألف فرسخ تحت الماء " التى كتبها عام 1870 الأديب الفرنسى الشهير "جول فيرن "- صاحب رواية " رحلة إلى مركز الأرض " التى يدرسها طلبة الاعدادية عندنا – و تخيل فيها غواصة عملاقة أطلق عليها "النيو تيلوس " تدور بالكهرباء التى تولدها محركاتها الجبارة من الماء و قد دارت هذه الغواصة حول العالم و سبحت تحت القطب الجنوبى و تشاء الأقدار و قبل مضى أعوام قليلة على الذكرى المئوية لميلاد هذه الرواية أن تنطلق "النيوتيلوس " الحقيقية عام 1958 و تقوم بأول رحلة تحت القطب الجنوبى و يتكرر الأمر مع "جول فيرن " فى روايته "من الأرض إلى القمر " التى كتبها عام 1865 يتنبأ فيها بصعود الإنسان إلى القمر و تتحقق نبؤته بعد مضى أكثر من مائه عام !هذه القدرة على التنبؤ الدقيق للمستقبل من منظار العلم هى - فى رأى – أدق مقياسا لنجاح روائى الخيال العلمى و أرفع وسام على صدره و تقديرا لعطاءه حين اخترق بحدسه حاجز الزمان و أمسك المستقبل بيد الحاضر .

!!يا نســــاء بلادى ..إعقلوا


يقولون لنا أن المرآة في بلادنا قد تحررت, و الدليل على ذلك أنها تعلمت و فاقت أعداد الفتيات أعداد الشباب في الجامعات, ثم أن النساء انطلقن إلى سوق العمل و اقتحمنه من أوسع أبوابه فصارت من بيننا المديرة و القاضية و الوزيرة و عميدة الكلية و هناك من يطالب بأن تشغل المرآة مناصب الإفتاء و رئاسة الجامعات بل و رئاسة الجمهورية !
و نقول أن كل هذا كلام جميل و لكن ليس معناه أبدا أن المرآة في بلادنا خرجت من شرنقتها و تحررت, و إذا كنا جميعا ننادى في المرآة العربية قائلين "ها قد طوي عهدا طويلا من الاستبداد الذكوري و ها أنتي قد صرتي ندا للرجل مساوية له في الحقوق, فإن المرآة العربية لا تزال لا تشعر بما تسمعه أو لا تفهم كل ما يقال كل الفهم, لا تزال متخبطة بين ما طرأ عليها من أوضاع جديدة و ما استقر في أعماق سريرتها من مئات السنين من ثقافة وطنتها على الإستكانة و الانزواء و الشعور بالنقص و عدم الأهمية و بأن الرجل هو دائما الأقوى و الأعقل, لازالت رقبتها تحمل أثار القيد القديم و تشعر بمكانه .. لقد تحررت المرآة من سطوة الرجال و استئثارهم بشؤون الحياة الاجتماعية من دونها و لكنها لم تتحرر من أفكارها التي تحملها عن نفسها , لم تتحرر من أحاسيسها بالضعف و عدم النضج.. و من يستمع إلى الناس و هم يتحدثون عن ما يسمونه " مشكلة العنوسة " ويرى ردود الأفعال المختلفة التى يثيرها هذا الحديث من شعور بالأسى أو النقص أو الخجل لدى الفتاة "العانس" ..و شعور بالسخط و الحنق و القلق لدى أهلها .. و ميل إلى السخرية من بعض الشباب و النساء المتزوجات .. يدرك أن المرآة العربية فى أزمة , ليست أزمة "العنوسة" و لكنها أزمة فقدان الكيان, فالمرآه العربية مازالت تنظر إلى نفسها و ينظر إليها على أنها تابع للرجل لا تكتمل كينونتها إلا في وجوده , فهي بدونه مخلوقا ناقصا , كالبيت الوقف كما يقولون .. و الزواج بالنسبة لها هو " العدل" وكأنها من غيره تقف و تسير و تنام و هي مائلة و ليس كبقية خلق الله !
و كان من المنتظر أن يتحطم هذا المفهوم بزوال الفروق القديمة بين الرجل و المرآة و بعد أن أثبتت المرآة عندنا أنها لا تقل عن الرجل في شيء بل إنها قد تتفوق عليه دون أن يثير ذلك أي غرابة , و أنها لم تعد"أمينة" زوجة سي السيد التي لا تعرف الدنيا إلا من خلاله و لا ترى حقا و لا باطلا إلا بمنظاره و ما فائدة العلم و العمل إذا لم يمنح المريء استقلاله و يوطن في نفسه الشعور بذاتيته و بأنه لم يعد في حاجه لكي يحمل أحد عبأ وجوده , وبأن علاقته بالعالم من حوله صارت مباشرة , الوسطاء فيها يمتنعون و عقله وحده هو سراج سبيله ؟! ... ما فائدة التجارب الجديدة التي عاشتها إمرآة القرن العشرين فى عالمنا العربي إذا لم تثقل شخصيتها و تمنحها الثقة بنفسها وبقدرتها على خوض معركة الحياة و إحراز النصر فيها من دون حاجة لرجل يمهد له الخطى و يعبد الطرقات و يأخذها من يدها إلى بر الامان ؟ ... لماذا ترى المرآة فى الزواج الذود و الخلاص , وكأن لا معنى لها و لا عائد من حياتها فى غيابه ؟ بينما لا يرى فيه الرجل غير مأربا لنيل شهوته و وسيلة لإنجاب ذرية تحمل أسمه و تمد فى ذكره و عاملا مساعدا للتحقيق الاستقرار و الهدوء النفسى يمكن جدا استبداله بوسائل أخرى ؟ لماذا "العذوبية " ليست مشكلة خطيرة "كالعنوسة" , فالعازب ينظر له فى الغالب على أنه شخص سعيد , زكى , يلعب بذيله و قد نشفق عليه حين نعرف ان سبب عذوبيته هو ظروفه المادية و لكن ليس نصف و لا عشر مقدار الشقفة التى تمنحها للفتاة العانس التى تقطعت بها الأسباب و غلقت فى وجهها الأبواب و صارت أتعس خلق الله و أكثرهم ذلة و مسكنة ؟ .. لماذا ينظر للمرأة المطلقة على أنها إمرأة من الدرجة الثانية مع أنها قد تكون أمرأة عظيمة .. أشرف و أنبل و أعقل ألف مرة من طليقها الذى لا يلقى عليه أحد أى لوم ؟ لماذا نجد الكثيرمن الفتيات لا هم لهن إلا إصطياد العريس و إسقاطه فى الشباك مستخدمات كافة الحيل و السبل , فعندهن أن كل الوسائل تبرر تلك الغاية الأسمى و هى الزواج .. حتى لو كلفها ذلك أن ترخص نفسها و تطأ كرامتها بأقدامها مع أنه لم و لن يوجد رجل فى الدنيا يستحق أن "تتشحتف" المرآة من أجله أو أن تهدر و لو قطرة من كرامتها و عزتها الثمينة من أجل الوصول إليه .. بل هى التى تستحق منه أن يأتيها خاشعا ناصبا .
ليس معنى كلامى هذا انى ادعو النساء إلى مقاطعة الزواج لا سمح الله , و لا ألوم المرأة إ ذا أرادت أن تحب و أن تعبر عن حبها هذا دون أن تقلل من كرامتها .. و لكنى أريد لنسائنا أن تعرف أن الحياة ليست وقفا على الرجال , و لا تبدأ بعد الزواج أو تنتهى بنهايته .. فالحياة , و المرأة قادرة على أن تحياها و تضيف إليها و تحقق ذاتها دون أن يكون لذلك علاقه بحالتها الاجتماعية إن كانت متزوجة أو مطلقة أو أرملة .. ثم أن لا داعى لكى تتهم النساء المجتمع بأنه هو الذى أوضعها في هذا المأزق و جعل منها عروة فى جاكتة الرجل أو "زرارا " فى ياقته .. فالمجتمع ليس إلى مجموعة من الأفراد و النساء هن نصفه , و حين تتغير نظرتهن لأنفسهن سوف يتغير ذلك المجتمع .

Sunday, February 25, 2007

!!إشكى همومك للحائط

الأبحاث الطبية المختلفة تؤكد كل يوم ان الإنسان الكتوم هو أكثر الاشخاص عرضا لأمراض القلب و الجلطات الدماغية , فالشخص الكتوم يجنى على قلبه حين يحوله إلى صندوق يحشوه بالهموم و الأحزان من كل لون ثم,يوصد عليه الأقفال فتنموا الهموم و تلد هموما اخرى فلا يجد القلب مفرا إلا أن يثور و يمرض
و الهموم قبل أن تكون مرضا للقلب فهى شغلا للعقل ,و الشخص الكتوم هو ذلك الشخص الذى بصمته صارت له ذاكرة من حديد لا تزيل الأيام ما نقشته عليها الأحوال إلا بالقدر الضئيل ,و هو الشخص الذى جعل من عقله وعاءا مغلقا للأفكار, يقلبها فوق صفيح الألم و حين لا تجد منفذا تتبخر منه , حين لا تجد نبرات الصوت ولا أذان الناس و عيونهم و هى محفاتها التى تقلها إلى قبرها تنفجر فى العقل و به أيضا
و تروى لنا أسطورة هندية قديمة قصة سيدة كانت تعيش بين ولديها و زوجاتهما بعد ان مات زوجها , و كانوا جميعا يعاملونها فى منتهى القسوة و الخشونة فلفها الحزن و الألم و لم تجد فى قريتها الصغيرة من يواسيها و يشاركها همومها فانزوت و انطوت على نفسها و زادت حزنا فوق حزنها حتى سائت صحتها و انتفخ جسدها و امتلاء بالترهلات و الشحوم .. و أخذ كل من حولها يعايرونها بسمنتها المفرطة وثقل جسدها الذى صار فى حجم الفيل الهندى ,و فى إحدى الأيام خرجت الأم المسكينة ترثى حالها و سارت وحيدة حتى بلغ بها التعب مبلغه ووجدت نفسها قد أطالت فى السير حتى غادرت القرية فأرادت أن تستريح قليلا و لمحت على مرمى بصرها بيتا مهجورا فذهبت إليه و دخلته فوجدته عبارة عن غرفة صغيرة من أربعة جدران من غير سقف فمالت على احد الجدران و جلست مستندة عليه تبكى ثم أخذت تنظر إليه و تحكى له ما يفعله بها ابنها الأول فسقط الجدار, ثم جلست بجوار الجدار الثانى و حكت له ما تفعله بها زوجة ابنها الأول فسقط الجدار الثانى بما حكت له , و حكت للجدار الثالث عن ابنها الثانى و للجدار الرابع عن زوجته و سقطا كما سقط الجدارين الاخرين و كانت الأم كلما سقط جدارا تشعر بأنها صارت أقل وزنا و أخف حركة حتى شعرت بعد أن سقطت الحوائط الأربعة بأنها تكاد تطير فى السماء من فرط خفة جسدها و انتعاش روحها و عندما نظرت الى نفسها وجدت ان جسدها عاد إلى عهده أيام شبابها كغصن البان بلا ترهلات و لا شحوم و صارت ملابسها فضفاضة كما لم تكن من قبل فعادت إلى بيتها راضية مرتاحة
و فى زمن كزماننا هذا أصبحنا فى أمس الحاجة إلى الحوائط , نحكى لها و تسمعنا كى لا نمرض فاليوم لم يعد لدى أحد الوقت و لا الشغف بأن يسمعك , فعنده ما يكفيه و ليس فى عقله مكانا لكلامك و ليس فى وسعه أن يضيف إلى همومه هموم ليست له و لا هى تهمه فلا عليك و لا هو بجنون جرم أن تتكلم مع حوائط غرفتك أو تجلس قليلا لتتحدث إلى مرآتك فذلك بالطبع خيرا من أن تمرض بالجلطات

و البكاء أيضا نعمة عظيمة , و نوعا هاما من الشكوى المفيدة , و لكنك بدلا من أن تشكى بلسانك تفعل ذلك بدموع عينك و بدلا من أن تشكى للحائط أو الجدار تشكى لوجنتيك و من الخطأ الشديد أن نلوم الرجل حين يبكى و أن نتهمه بالضعف , فالبكاء ظاهرة صحية و ضرورية جدا ليس فقط لانه غسيلا للعين و تطهيرا لها بل لأنه غسيلا للقلب من همومه أيضا
و بالمناسبة – قد يكون هذا المقال مناسبا للرجال أكثر , فمعظم النساء لا يحتجن إلى واسطة كى يشكون لأحد فلسان كل أمراة أبدا سباق.. أما عن البكاء فحدث و لا حرج , فالمرأة عادتا تبكى لأقل سبب أو بدون سبب و هى !لا تبكى لأنها ضعيفة بل لأن لديها نشاط زائد فى الغدد الدمعية
و على الأرجح أن هذه المرأ ة الهندية التى تتحدث عنها الأسطورة من نوع نادر يوشك على الإنقراض أو هو قد انقرض فعلا .. و هناك أحتمال أخر و هو أن هذه المرأة من كثرة شكواها لمن حولها من زوجها و عمايلة السودة قبل أن يموت و تصبح أرمله ,قد مل الناس سماعها و لم يعدوا قادرين
!!على إحتمال المزيد,فلجأت للحوائط