Tuesday, April 24, 2007

الإنسان و القدر ... كلنا أنت يا سيزيف


كان الأغريق أروع من عبروا عن القدر فى أدابهم و أساطيرهم .. فها هو بطلهم المنكوب "سيزيف" الذى حكمت عليه الإلهه بالشقاء الأبدى , يحمل حجرا كبيرا و يصعد به إلى أعلى الجبل فيسقط الحجر فيهبط "سيزيف" عائدا ليرفعه و يصعد به من جديد , و هكذا إلى الأبد ! ... و لم يكن "تنتالوس " خيرا منه , فقد علقته الألهه على إحدى الأشجار القابعة أمام النهر , و قد فتك به الجوع و العطش فيصعد إليه ماء النهر ليشرب فإذا مد رأسه هبط الماء مرة ثانية فى الحال , و تتدلى غصن الشجرة بتفاحه فإذا مد يده ليقطفها صعد الغصن فى الحال ..و هكذا إلى الأبد ! ... و " أوديب " , ذلك البطل التعس الذى لعب القدر به لعبة شريرة و انتهى به المصير إلى أن يقتل أبيه و يتزوج بأمه دون أن يدرى ! ...و من يقرأ مأسى "سوفوكليس" أو "إيسخولوس" سيصادف عشرات الصور الشبيهه بهؤلاء , فالإنسان فى التصور الأغريقى هو " سيزيف" و "تنتالوس " و " اوديب " و غيرهما ... و مأساة الإنسان الحقيقية فى نظرهم هى صراعه الأبدى مع القدر المحتوم , ذلك الصراع الذى لا مفر من خوضه , و لا حيلة للإنسحاب منه بالرغم من أن الهزيمة المؤكدة هى نصيب الإنسان فى نهاية تلك المعركة غير متوازنه القوى .
ف"سيزيف" لم يفكر فى التوقف عن عمله , لم يفكر فى أن يرمى الحجر فى وجه " زيوس" معترضا , أو ان يرمى به على رأسه هو فيقتل نفسه يأسا .. و "تنتالوس " لم يفكر فى أن يتوقف عن مد يده للتفاح , و فمه لماء النهر .. أنه لم يتوقف عن "الأمل" حتى لو أنه ليس هناك "أمل"! ... و الإنسان جاء إلى هذه الدنيا دون أن يريد هو ذلك , وولد و إذ له أسما جاهزا .. و أبا و اما و بيتا و وطنا و طبقه , و أنفا طويلة أو قصيرة , و بشرة صفراء أو بيضاء أو سوداء , و رأسا كبيرا أو صغيرا .. و .. و .. و ... ألخ . ثم أنه قد وجد فى نهايه طريقه مسخا عملاقا يترصد به و يتهدده و هو أت له لا محاله , و فاتكا به لا محاله .. أنه الموت الذى ينقض فى أى وقت و بلا تمهيد !
إن أخطر ما يعيه الإنسان فى الوجود من حوله هو وجوده الذاتى و موقف هذا الوجود الضعيف الحرج من العالم المحيط به و من المجهول الذى ينتظره , من حيث أنه مخلوق بغير إرادته , على صوره لم يخترها بل فرضت عليه فرضا .. و هذا الوعى بالوجود الفردى المأسوى هو شرارة الصراع الأبدى مع القدر .. لأن هذا " الوعى " هو الحالة المضاده للجبر القدرى , أنه تعبيرا ساكنا عن " الحرية " و الرغبة فى "الخلق" التى كان "قدر" الإنسان كذلك أن يولد بهما ..و أن ينفرد بهما من دون الكائنات الأخرى . فهم يقولون أن الإنسان حيوان ناطق أو حيوان عاقل او حيوان اخلاقى كما يقول " كانت " او سياسي كما يقول " أرسطو" , و الإنسان حيوان متعال على حيوانيته , حيوان راغبا فى الخلق و الخلق بحرية ..و هو يعبر عن هذه الرغبة الكامنه فى أعماقه بالنطق و الفكر و الأخلاق و السياسة و بغيرها من الوسائل و الطرق , و ما الحضارة الإنسانية فى شتى صورها من إلا إنعكاسا لتلك الرغبة فى الخلق .. إلا محاولة فاشلة أو مقدور لها الفشل فى السيطرة , فى القبض على زمام الكون العظيم المترامى .. فى الخلود الذى لن يبلغه أحد , فى تحدى الفناء المحتوم .. فى التمرد على الوجود "المفروض" بقيوده المؤلمة و قوانينه التى لا تتبدل و على رأسها قانون الموت! ..
و مشكلة "الإنسان" ليست فى محدوديته و فى عجزه أمام القدر ..و لكنها فى وعيه بهذه المحدودية و بهذا العجز , أى أن قضية "الحرية" فى النهاية هى موقف عقلى صرف و ليست وجودا مستقلا عنه و ربما عنى "سارتر" هذا حين قال " لست السيد و لست العبد و لكنى أنا الحرية التى أتمتع بها " و كل ما يمكن أن يفعله الإنسان فى مواجهه أقداره أن يتخذ موقفا عقليا منها , مثل أن يعتنق تفسيرا للموت مثلا, له كل الحرية فى ذلك و لكن حين يصل الأمر إلى حيز الواقع و الوجود الخارجى فإن هذا الموقف العقلى لن يكون له أثرا و لا يشترط أن تسير الأحداث بموجبه أو تسير عكسه و رحم الله "المتنبى " إذا قال:-
ألا أرى الأقدار مدحا و لا ذما *** فما بطشها جهلا و لا كفها حلما.
.إن جسد الإنسان لا يأخذ من حيز الكون إلا ذرة تافهه , بل أصغر من الذرة التافهه ألف مرة .. و لكن " عقله" جوادا راكظا , لا يهدأ و لا يرضى .. يعلو فيهتك الحجب و يخترق السماوات , يلهث خلف المعرفة و التجربة و لا يهاب الخطر , و لو إطلق له العنان فلن يعنيه أن يلقى بذلك الرأس التى تحمله إلى الموت فى سبيل بلوغ مأربه ..لهذا لم يتوقف سيزيف و لم ييأس تنتالوس , و لن ييأس الإنسان من المحاولة رغم أن النتيجه مقدرة سلفا..فالإنسان مخلوق "قلق" يتملكه الصراع المستمر بين طموح فكره المنطلق و بين إمكانته المحدوده و حيزه الضيق . و هذا الوعى المذدوج يربك الإنسان و يوقعه فى التناقض و يشككه فى قيمة ما يقوم به من عمل و لا أعرف لماذا يتملكنى هذا المعنى حين أقرأ ابيات الشاعر الإيطالى "بالازيتشى " :-
من أنا؟
شاعر ؟ ..ربما!
لا ..لأن براعة نفسى ما سطرت يوما و ما تسطر غير كلمة واحة :جنون!
مصور ؟ ..ربما!
لا.. لأن ريشة نفسى ما صبغت و ما تصبغ غير لون واحد :سواد!
لقد نظرت من خلال عدسة قلبى ..
لأعرف من أنا ..
فإذا أنا بهلوان يتأرجح على حبال نفسى!
و ربما كان "أدب اللامعقول " الذى اذدهر فى القرن الماضى أصدق من عبر عن هذا المعنى و كذلك مدارس الفن الحديثة مثل "السريالية " و "الكوبزم" فكلها كانت نتاج هذا الشعور بالإرتباك و القلق , فالبرغم من التقدم الهائل الذى أحرزه الإنسان على الصعيد التكنولوجى إلا أنه مازال شاعرا بضعفه و قله حيلته ووحدته فى هذا العالم . و الذى يزيد من شدة هذا القلق أن على الإنسان دائما أن يختار و أن يشعر بوطئة المسؤولية حين يختار .. و ليس هناك مفر من الإختيار و لا مفر من المسؤلية فحتى حالة عدم الاختيار هى اختيار و التخلى عن المسؤولية موقف على مسؤوليه صاحبه ! بل إن "الاختيار " هو جزء من ذلك القدر الذى نصارعه أو نتوهم أننا نصارعه !
إن حياتنا تشبه مسرحية كبيرة , و نحن كنا ممثليها أما القدر فقد ألفها و أخرجها و أعطى لكل واحد منا دوره , و أوقف كل واحد منا فى مكانه .. ثم كان هو الجالس الوحيد فى صالة العرض و الذى بأمره أيضا يتوقف العرض .. أما قصة المسرحية , فهى عن مجموعه من البشر قرروا أن يمارسوا الحرية ! ..

No comments: